نقلاً عن صحيفة "الاهرام" المصرية
د/عبدالمنعم سعيد
لا أدري هل ما زال قادة الرأي في مصر مهتمين بقضية القمامة أم أن مواضيع أخري قد غلبت, وجذبت الأنظار قضايا أخري أكثر ألفة مع ما هو معتاد ومتواتر ولا يبدو أنها تدعو أبدا إلي الملل. وأخشي ما أخشاه أن القضايا تأتي إلي بر مصر جاذبة للأنظار ملحة علي أحوال الناس, ثم بعد ذلك يضيع منها الوهج لأن بعضا من الاهتمام أدي إلي بعض من الحلول, ويبقي الحال في النهاية علي حاله, وينصرف الناس بعدها تحت القيادة الواعية للجماعة الفكرية نحو القضايا المصيرية التي سيطرت علي حياتنا خلال العقود الطويلة الماضية.
قائمة الأمثلة علي ذلك طويلة, وقبل فترة ليست بعيدة كان رغيف العيش هو بطل الساحة ونجمها الأوحد, وفي فترات كثيرة أكد الجمع أن قضية التعليم هي قضية القضايا ومنبع تقدم الأمم, وفي فترات أخري أصبح التطرف والغلو هو الموضوع الذي لا موضوع بعده ما بين الصحف والتليفزيون. وهكذا أحوال وقضايا وموضوعات تظهر وبعدها تختفي, ولكن الاختفاء لا يكون دليلا علي حل المعضلة, وإنما لأن بعضا من المسكنات جعلتها أقل إلحاحا أو تعود الناس عليها حتي باتت من معطيات الحياة كالقدر المحتوم والقضاء النافذ.
مثل هذا لا ينبغي له أن يحدث مع موضوع القمامة, وفي وقت من الأوقات كتبت في مجلة الأهرام الاقتصادي مقالا تواضعت فيه آمالي إلي الدرجة التي طالبت فيها أن يكون لنا هدفان قوميان فقط: النظافة والتخلص من القمامة مثلما هو الحال في الدول الأخري; ووضع نظام تعليمي يسمح بالتخلص من الدروس الخصوصية. وأيامها عاتبني صديق لأنني لم أدرج تحرير فلسطين ضمن تلك الأهداف القومية الكبري, فأجبته بأنني أظن أن ذلك من البديهيات التي لا تحتاج إلي ذكر, وأخفيت عنه خوفي أن تنتظر القمامة حتي يتم التحرير.
وعلي أية حال, وخلال الأسابيع الماضية انفجرت القضية كما لم تنفجر منذ وقت بعيد, برغم أن حال القذارة في مصر لم يكن ممكنا تجاهله أبدا, وذات مرة قرأت في مجلة سياحية سويسرية مقالا وصف القاهرة بأنها تلك القرية الكبيرة التي تشعر بها حال خروجك من الطائرة حيث الرائحة المميزة بالقري, أما بعد التجول في شوارعها فإن القمامة كانت دائما جزءا من الوصف المميز لقاهرة المعز, ومحروسة المصريين, في كتابات الرحالة والسائحين والزوار.
كان ذلك قبل وقت طويل من انفجار الأزمة الحالية التي تراكمت فيها القمامة تلا بعد تل, وحتي قبل ذبح الخنازير والتخلص منها ومعها إضراب الزبالين, فلم تكن انفلونزا الخنازير قد عرفت بعد, ولا كان قد وصل منها إلي بر مصر فيروس. فالمسألة ببساطة, ودون تفاصيل كثيرة, تنبع من حقيقة بسيطة تريد كثرة منا ألا تصدقها, وهي أننا أصبحنا ثمانين مليون نسمة, وربما ما هو أكثر الآن, وهؤلاء جميعا يخرجون كثيرا من المخلفات التي إذا لم يتم التخلص منها, أو الاستفادة منها, فإنها تتحول إلي ما هو مشهود الآن من قمامة.
وتشير بعض التقديرات لعام2009 إلي أن المتولد اليومي للمخلفات الصلبة القمامة43 ألفا و835 طنا يوميا علي مستوي الجمهورية, أي أن المخلفات الصلبة الناتجة في مصر تقدر بـ20 مليون طن سنويا, وتشيـــــر هذه التقديرات أيضا إلي أن محافظة القاهــــرة تنتـــج يوميا10 آلاف و795 طن قمامة بخلاف3 آلاف طن مخلفات مبان وأتربة, حيث إن القاهرة تعد واحدة من أكبر10 مدن من حيث الكثافة السكانية, بالإضافة إلي نحو2 مليون زائر للقاهرة يوميا من المحافظات المختلفة.
كما يبلغ حجم النـــاتج اليومي لرفع القمامة في محافظـــة الجيزة حـــوالي4610 آلاف طن, ويليها الدقهلية3825 طنا ثم القليوبية3455 طنا والإسكندرية2615 طنا والبحيرة2160 طنا والشرقية1730 طنا وكفر الشيخ1725 طنا والمنوفية1265 طنا والمنيا1220 طنا, أما بالنسبة لأقل المحافظات من حيث حجم المخلفات فهي الوادي الجديد65 طنا يوميا والأقصر120 طنا يوميا. وتنقسم المخلفات الصلبة إلي عدة أنواع أساسية تشمل النفايات العضوية بنسبة55% من إجمالي المخلفات, والورق والكارتون بنسبة15% من النفايات, ومخلفات البلاستيك بنسبة6% ونفايات معدنية4% وزجاج2% والنسيج2% و16% للنوعيات الأخري كالأخشاب.
مثل هذه الأرقام لا تظهر فجأة, وحتي الزيادة السكانية لا تظهر فجأة, وفي كل مجتمعات العالم فإن التغيرات في أغلبها لا تحدث في شكل طفرات مفاجئة, والدول والمجتمعات والحكومات ذات الحكمة والحصافة تعرف كيف تتقي البلاء قبل وقوعه. ولكن ما بالنا نبدو كما لو كان الأمر هبط علينا كما تهبط المخلوقات الفضائية علي قري نائمة في وداعة فتحيل حياتها جحيما كما يحدث في بعض الأفلام. وموضوع القمامة ليس أزمة ينطبق عليها تعريف الأزمات حيث تأتي فجأة ولا يوجد إلا وقت ضئيل لاتخاذ القرار في قضية حيوية, وإنما هو قضية موجودة منذ وقت طويل, وكل ما حدث أنه تضافرت مجموعة من العوامل الجديدة التي فاقمت ما كان موجودا منذ وقت بعيد.
ولعلي كنت ـ وما زلت ـ من المقدرين للمجهود التي قامت به حكومة الدكتور أحمد نظيف في تغيير الحياة الاقتصادية والاجتماعية المصرية, وهو ما عبرت عنه في كتابات كثيرة. ولكن مع هذا التقدير, فإنه لا يمكن إعفاء الحكومة من المسئولية عن ضعف قدرتها علي التنبؤ والتعامل مع قضايا تتراكم مشاكلها تحت أعيننا ثم نجد أنفسنا' فجأة' نتحمل المسئولية عن معالجتها علي المدي الطويل, مع الوعد أن بعضا من الآثار الإيجابية سوف نحس به بعد شهور في مطلع عام قادم.
تماما كما حدث في قضية رغيف العيش الذي بدأنا نشعر ببعض التحسن, ولكننا نعرف أن القضية برمتها لا تزال باركة علي صدورنا. ومن المدهش أن الحكومة التي لم يكن مطلوبا منها التنبؤ بالأزمة الاقتصادية العالمية لأنها لا تملك الإمكانية, فإنها تعاملت معها بنضج وكفاءة ونتائج جيدة بينما ظلت مترددة ومتلعثمة بالنسبة لقضايا حياتية مهمة للمصريين.
وللحق فإن تحميل الحكومة المسئولية لا يعفي كل الأطراف الأخري من المسئولية, حيث نفتقد عادة تلك الميزة التي تتمتع بها شعوب أخري والخاصة' بالتركيز القومي' والتي تعني قدرة الحفاظ علي الهدف والسعي نحو تحقيقه, وربما فيما عدا القضية الوطنية الخاصة بالحفاظ علي مصر وحمايتها من الغزاة والمحتلين, فإننا لم ننجح في أخذ القضايا إلي خواتيمها. وبعد قرنين من النهضة المصرية لا زال26% من المصريين يعانون من الأمية( كان ذلك هو الوضع في المكسيك عام1985 عندما زرتها, أما في اليابان فقد كان ذلك هو الحال في مطلع القرن العشرين أي قبل أكثر من قرن من الزمان).
ومن العجيب أن المصريين في العموم لا يكفون عن تذكير لاعبي كرة القدم بضرورة التركيز علي الهدف, بينما لا يفعلون ذلك إزاء قضاياهم الكبري فإذا خفت المشكلة تعايشوا معها, وإذا طالت أصبحت من معطيات الحياة وجري الانصراف إلي قضايا أخري. والمصريون هنا ليسوا كتلة هلامية من البشر, وإنما هم هؤلاء الذين يمشون في الطرقات ويذهبون إلي العمل, ويتخذون القرارات اليومية, ويتحدثون ويعلقون, ويتهكمون ويطلقون النكات, وببساطة يعيشون في عالم يريدونه أفضل, أو أنظف, مما هو عليه.
المشكلة مع هؤلاء جميعا, حكومة وشعبا وأحزابا وإعلاما وجماعات وجمعيات, أننا مصممون علي كوننا نحن المصريين حالة خاصة بين البشر. فإذا جاءتنا مشكلة مثل القمامة تصورنا أن حلها لا بد أن يكون مصريا خالصا, أي ألا تحل علي الإطلاق, وتترك للزمن الذي أبقي الأهرامات علي حالها لآلاف السنوات. ولكن الحياة لا تتركنا أبدا علي حالتنا الخاصة, وكلما تقدم الآخرون تأخرنا بالضرورة, وفي عالم الجراثيم والفيروسات الطائرة مع الطيور والخنازير والطائرات والهجرة لا يستطيع شعب أن يترك قضية القمامة بلا حل. وكان الحل في كل شعوب الدنيا قائما علي مجموعة من البديهيات:
أولها أن النظافة ليست من الإيمان فقط بل إنها من مستلزمات التقدم, ولا يمكن لدولة أن تكون متقدمة ما لم تكن دولة نظيفة. وثانيها, وهذه جاءت من العلوم الطبيعية, أن' القمامة' ثروة كبيرة لأنها في النهاية مثلها مثل الأشياء مكونة من ذرات وجزيئات ومواد يمكن كلها أن تعود إلي أصولها. وكما هو معروف أنه يمكن تنقية المياه ثم إعادة استخدامها مرة أخري للشرب أو للري, فإنه يمكن تنقية القمامة وتدويرها مرة أخري لكي تكون أمورا مفيدة. و
ثالثها, أن الأمر كله يمكن معالجته من خلال دورة تبدأ بتجميع وفرز القمامة من المنازل والمصانع, ثم بعد ذلك يجري نقلها إلي حيث تدفن أو تحرق في الدول النامية الفقيرة ولكن النظيفة, أو يجري تدويرها وإعادة تصنيعها في الدول المتقدمة, وبذلك تشكل قيمة مضافة للدخل القومي.
ومن المعروف أن غالبية الدول الأوروبية تتبع نظام فصل القمامة من المنبع, سواء كانت مخلفات عضوية مثل مخلفات الطعام, ومخلفات أخري مثل البلاستيك والورق والكرتون والمعادن والزجاج. وقد قامت دولة مثل اليابان بخطوات هامة علي طريق تقليص حجم القمامة, ويعد تدوير علب السلع المحفوظة والزجاجات البلاستيكية من الصناعات البارزة فيها. كما تشجع الولايات المتحدة سكانها في عدد من الولايات علي فرز نفاياتهم وفصل ما يصلح منها لإعادة التدوير بالتعاون مع بعض جمعيات حماية البيئة. وتستثمر دول الاتحاد الأوروبي حوالي ما يقرب من100 مليار يورو سنويا في صناعة تدوير المخلفات.
هذه البديهيات ليست صعبة أو معقدة وكل ما تحتاجه هو نظام وإدارة وتركيز, لأن مصر وقمامتها ليستا حالة خاصة, وقد أشارت دراسة لمعهد بحوث الأراضي والمياه والبيئة إلي أن قمامة القاهرة تعد من أغني أنواع القمامة في العالم, وأن الطن الواحد من الممكن أن يتراوح ثمنه ما بين ستة إلي ثمانية آلاف جنيه, ويمكن للطن الواحد أن يوفر فرص عمل لثمانية أفراد علي الأقل. كما تشير إلي أن هناك فاقدا يقارب12 أو13 مليار جنيه سنويا من مصادر الثروة الطبيعية في القمامة, وهي مخلفات يمكن إعادة تدويرها واستخدامها إضافة لنفايات صناعية قابلة للتدوير, مثل الزجاج والورق والصاج ولعب الأطفال والملابس الداخلية والأحذية الرياضية والموكيت والمواسير والأجهزة الكهربائية والعبوات.
ومعني ذلك أنه يمكن للقمامة أن تمثل مصدرا مهما للدخل القومي بدلا من أن تكون ثروة مهدرة. وقد عبرت السينما المصرية في عام1980 عن ذلك من خلال فيلم انتبهوا أيها السادة, حيث تم تسليط الضوء علي دور الزبالة في تغيير الأوضاع الاجتماعية للمصريين في عقد السبعينيات من القرن الماضي, حيث استطاع الزبال بأمواله وعماراته وسياراته تحقيق ما لا يستطيع تحقيقه أستاذ جامعي.
أيامها احتفي النقاد والمعلقون بالفيلم لأنه أدان عصر الانفتاح الاقتصادي الذي قلب الأوضاع في المجتمع, ولكنه في نفس الوقت ربما وضع يده علي قلب المعضلة المصرية كلها والتي جعلتنا حتي الآن نختلف عن الدول إلي تقدمت في العالم. فبينما قامت هذه الأخيرة علي تكامل الأدوار والوظائف بين الزبال والأستاذ الجامعي, فإننا وضعنا قيمة من الاحترام الخاص الذي يستحقه الأستاذ, بينما سلبنا الآخر من ذات القيمة لأنه لا يقوم بمهنة محترمة. وبعد ثلاثة عقود من الفيلم أصبح لدينا كثرة من أساتذة الجامعة المحترمين, ولكن جماعة الزبالين إما أنها انتهت, أو توقفت عن العمل, أو أضربت, وكانت النتيجة أننا أصبحنا شعبا يعيش في بحر من القمامة.
وحدث ذلك في الوقت نفسه الذي كانت فيه البيروقراطية تطيل التفكير في البديل الوطني, أو الأجنبي الذي هو الآخر وطني مع إدارة أجنبية علي الأغلب من أصول مصرية, وسواء كانت المعالجة من هذا أو ذاك فإن ما نراه أمام عيوننا كان فشلا صافيا. واتسم الأداء الحكومي في التعامل مع المشكلة بالقصور, أما قوي المعارضة فلم تتعامل مع المشكلة بشكل جاد, بل غلب عليها طابع السخرية دون محاولة طرح أفكار خلاقة وحلول بديلة للتعامل مع المشكلة.
ولكن الصورة ليست كلها سوداء, ولم تكن كل الأيام كالحة, حيث طرح في الشهور الماضية عدد من الأفكار بجهود أهلية وشعبية, وتركزت بدرجة أكبر في القطاعات الشبابية والنسائية, لترسيخ أهمية النظافة في الوجدان المصري العام, جاء بعضها من جمعيات للمجتمع المدني, ومن الصحافة القومية والخاصة, وأطلق شباب حملات علي الفيس بوك لحث المصريين علي نظافة بلادهم, عبر طرح شعارات مثل تعالوا ننظف بلدنا بأيدينا وتعالوا نغير طباعنا للأحسن وتعالوا نجمل شوارع مصر وتعالوا نزين ميادينها.
وأطلق بعض المواطنين (دانا موسي) حملة تنظيف أحد المحافظات التي صارت مليئة بالقمامة, مثل حملة نظفوا الجيزةCleanUpGiza, والتي تهدف لحث الشباب علي خدمة المجتمع ونظافة البلد. كل ذلك يعكس وجود طاقة جبارة جاهزة لمن يريد استخدامها في البناء والتقدم, بدلا من هؤلاء الذين يريدون استخدامها في التطرف والغلو والهدم.
د/عبدالمنعم سعيد
لا أدري هل ما زال قادة الرأي في مصر مهتمين بقضية القمامة أم أن مواضيع أخري قد غلبت, وجذبت الأنظار قضايا أخري أكثر ألفة مع ما هو معتاد ومتواتر ولا يبدو أنها تدعو أبدا إلي الملل. وأخشي ما أخشاه أن القضايا تأتي إلي بر مصر جاذبة للأنظار ملحة علي أحوال الناس, ثم بعد ذلك يضيع منها الوهج لأن بعضا من الاهتمام أدي إلي بعض من الحلول, ويبقي الحال في النهاية علي حاله, وينصرف الناس بعدها تحت القيادة الواعية للجماعة الفكرية نحو القضايا المصيرية التي سيطرت علي حياتنا خلال العقود الطويلة الماضية.
قائمة الأمثلة علي ذلك طويلة, وقبل فترة ليست بعيدة كان رغيف العيش هو بطل الساحة ونجمها الأوحد, وفي فترات كثيرة أكد الجمع أن قضية التعليم هي قضية القضايا ومنبع تقدم الأمم, وفي فترات أخري أصبح التطرف والغلو هو الموضوع الذي لا موضوع بعده ما بين الصحف والتليفزيون. وهكذا أحوال وقضايا وموضوعات تظهر وبعدها تختفي, ولكن الاختفاء لا يكون دليلا علي حل المعضلة, وإنما لأن بعضا من المسكنات جعلتها أقل إلحاحا أو تعود الناس عليها حتي باتت من معطيات الحياة كالقدر المحتوم والقضاء النافذ.
مثل هذا لا ينبغي له أن يحدث مع موضوع القمامة, وفي وقت من الأوقات كتبت في مجلة الأهرام الاقتصادي مقالا تواضعت فيه آمالي إلي الدرجة التي طالبت فيها أن يكون لنا هدفان قوميان فقط: النظافة والتخلص من القمامة مثلما هو الحال في الدول الأخري; ووضع نظام تعليمي يسمح بالتخلص من الدروس الخصوصية. وأيامها عاتبني صديق لأنني لم أدرج تحرير فلسطين ضمن تلك الأهداف القومية الكبري, فأجبته بأنني أظن أن ذلك من البديهيات التي لا تحتاج إلي ذكر, وأخفيت عنه خوفي أن تنتظر القمامة حتي يتم التحرير.
وعلي أية حال, وخلال الأسابيع الماضية انفجرت القضية كما لم تنفجر منذ وقت بعيد, برغم أن حال القذارة في مصر لم يكن ممكنا تجاهله أبدا, وذات مرة قرأت في مجلة سياحية سويسرية مقالا وصف القاهرة بأنها تلك القرية الكبيرة التي تشعر بها حال خروجك من الطائرة حيث الرائحة المميزة بالقري, أما بعد التجول في شوارعها فإن القمامة كانت دائما جزءا من الوصف المميز لقاهرة المعز, ومحروسة المصريين, في كتابات الرحالة والسائحين والزوار.
كان ذلك قبل وقت طويل من انفجار الأزمة الحالية التي تراكمت فيها القمامة تلا بعد تل, وحتي قبل ذبح الخنازير والتخلص منها ومعها إضراب الزبالين, فلم تكن انفلونزا الخنازير قد عرفت بعد, ولا كان قد وصل منها إلي بر مصر فيروس. فالمسألة ببساطة, ودون تفاصيل كثيرة, تنبع من حقيقة بسيطة تريد كثرة منا ألا تصدقها, وهي أننا أصبحنا ثمانين مليون نسمة, وربما ما هو أكثر الآن, وهؤلاء جميعا يخرجون كثيرا من المخلفات التي إذا لم يتم التخلص منها, أو الاستفادة منها, فإنها تتحول إلي ما هو مشهود الآن من قمامة.
وتشير بعض التقديرات لعام2009 إلي أن المتولد اليومي للمخلفات الصلبة القمامة43 ألفا و835 طنا يوميا علي مستوي الجمهورية, أي أن المخلفات الصلبة الناتجة في مصر تقدر بـ20 مليون طن سنويا, وتشيـــــر هذه التقديرات أيضا إلي أن محافظة القاهــــرة تنتـــج يوميا10 آلاف و795 طن قمامة بخلاف3 آلاف طن مخلفات مبان وأتربة, حيث إن القاهرة تعد واحدة من أكبر10 مدن من حيث الكثافة السكانية, بالإضافة إلي نحو2 مليون زائر للقاهرة يوميا من المحافظات المختلفة.
كما يبلغ حجم النـــاتج اليومي لرفع القمامة في محافظـــة الجيزة حـــوالي4610 آلاف طن, ويليها الدقهلية3825 طنا ثم القليوبية3455 طنا والإسكندرية2615 طنا والبحيرة2160 طنا والشرقية1730 طنا وكفر الشيخ1725 طنا والمنوفية1265 طنا والمنيا1220 طنا, أما بالنسبة لأقل المحافظات من حيث حجم المخلفات فهي الوادي الجديد65 طنا يوميا والأقصر120 طنا يوميا. وتنقسم المخلفات الصلبة إلي عدة أنواع أساسية تشمل النفايات العضوية بنسبة55% من إجمالي المخلفات, والورق والكارتون بنسبة15% من النفايات, ومخلفات البلاستيك بنسبة6% ونفايات معدنية4% وزجاج2% والنسيج2% و16% للنوعيات الأخري كالأخشاب.
مثل هذه الأرقام لا تظهر فجأة, وحتي الزيادة السكانية لا تظهر فجأة, وفي كل مجتمعات العالم فإن التغيرات في أغلبها لا تحدث في شكل طفرات مفاجئة, والدول والمجتمعات والحكومات ذات الحكمة والحصافة تعرف كيف تتقي البلاء قبل وقوعه. ولكن ما بالنا نبدو كما لو كان الأمر هبط علينا كما تهبط المخلوقات الفضائية علي قري نائمة في وداعة فتحيل حياتها جحيما كما يحدث في بعض الأفلام. وموضوع القمامة ليس أزمة ينطبق عليها تعريف الأزمات حيث تأتي فجأة ولا يوجد إلا وقت ضئيل لاتخاذ القرار في قضية حيوية, وإنما هو قضية موجودة منذ وقت طويل, وكل ما حدث أنه تضافرت مجموعة من العوامل الجديدة التي فاقمت ما كان موجودا منذ وقت بعيد.
ولعلي كنت ـ وما زلت ـ من المقدرين للمجهود التي قامت به حكومة الدكتور أحمد نظيف في تغيير الحياة الاقتصادية والاجتماعية المصرية, وهو ما عبرت عنه في كتابات كثيرة. ولكن مع هذا التقدير, فإنه لا يمكن إعفاء الحكومة من المسئولية عن ضعف قدرتها علي التنبؤ والتعامل مع قضايا تتراكم مشاكلها تحت أعيننا ثم نجد أنفسنا' فجأة' نتحمل المسئولية عن معالجتها علي المدي الطويل, مع الوعد أن بعضا من الآثار الإيجابية سوف نحس به بعد شهور في مطلع عام قادم.
تماما كما حدث في قضية رغيف العيش الذي بدأنا نشعر ببعض التحسن, ولكننا نعرف أن القضية برمتها لا تزال باركة علي صدورنا. ومن المدهش أن الحكومة التي لم يكن مطلوبا منها التنبؤ بالأزمة الاقتصادية العالمية لأنها لا تملك الإمكانية, فإنها تعاملت معها بنضج وكفاءة ونتائج جيدة بينما ظلت مترددة ومتلعثمة بالنسبة لقضايا حياتية مهمة للمصريين.
وللحق فإن تحميل الحكومة المسئولية لا يعفي كل الأطراف الأخري من المسئولية, حيث نفتقد عادة تلك الميزة التي تتمتع بها شعوب أخري والخاصة' بالتركيز القومي' والتي تعني قدرة الحفاظ علي الهدف والسعي نحو تحقيقه, وربما فيما عدا القضية الوطنية الخاصة بالحفاظ علي مصر وحمايتها من الغزاة والمحتلين, فإننا لم ننجح في أخذ القضايا إلي خواتيمها. وبعد قرنين من النهضة المصرية لا زال26% من المصريين يعانون من الأمية( كان ذلك هو الوضع في المكسيك عام1985 عندما زرتها, أما في اليابان فقد كان ذلك هو الحال في مطلع القرن العشرين أي قبل أكثر من قرن من الزمان).
ومن العجيب أن المصريين في العموم لا يكفون عن تذكير لاعبي كرة القدم بضرورة التركيز علي الهدف, بينما لا يفعلون ذلك إزاء قضاياهم الكبري فإذا خفت المشكلة تعايشوا معها, وإذا طالت أصبحت من معطيات الحياة وجري الانصراف إلي قضايا أخري. والمصريون هنا ليسوا كتلة هلامية من البشر, وإنما هم هؤلاء الذين يمشون في الطرقات ويذهبون إلي العمل, ويتخذون القرارات اليومية, ويتحدثون ويعلقون, ويتهكمون ويطلقون النكات, وببساطة يعيشون في عالم يريدونه أفضل, أو أنظف, مما هو عليه.
المشكلة مع هؤلاء جميعا, حكومة وشعبا وأحزابا وإعلاما وجماعات وجمعيات, أننا مصممون علي كوننا نحن المصريين حالة خاصة بين البشر. فإذا جاءتنا مشكلة مثل القمامة تصورنا أن حلها لا بد أن يكون مصريا خالصا, أي ألا تحل علي الإطلاق, وتترك للزمن الذي أبقي الأهرامات علي حالها لآلاف السنوات. ولكن الحياة لا تتركنا أبدا علي حالتنا الخاصة, وكلما تقدم الآخرون تأخرنا بالضرورة, وفي عالم الجراثيم والفيروسات الطائرة مع الطيور والخنازير والطائرات والهجرة لا يستطيع شعب أن يترك قضية القمامة بلا حل. وكان الحل في كل شعوب الدنيا قائما علي مجموعة من البديهيات:
أولها أن النظافة ليست من الإيمان فقط بل إنها من مستلزمات التقدم, ولا يمكن لدولة أن تكون متقدمة ما لم تكن دولة نظيفة. وثانيها, وهذه جاءت من العلوم الطبيعية, أن' القمامة' ثروة كبيرة لأنها في النهاية مثلها مثل الأشياء مكونة من ذرات وجزيئات ومواد يمكن كلها أن تعود إلي أصولها. وكما هو معروف أنه يمكن تنقية المياه ثم إعادة استخدامها مرة أخري للشرب أو للري, فإنه يمكن تنقية القمامة وتدويرها مرة أخري لكي تكون أمورا مفيدة. و
ثالثها, أن الأمر كله يمكن معالجته من خلال دورة تبدأ بتجميع وفرز القمامة من المنازل والمصانع, ثم بعد ذلك يجري نقلها إلي حيث تدفن أو تحرق في الدول النامية الفقيرة ولكن النظيفة, أو يجري تدويرها وإعادة تصنيعها في الدول المتقدمة, وبذلك تشكل قيمة مضافة للدخل القومي.
ومن المعروف أن غالبية الدول الأوروبية تتبع نظام فصل القمامة من المنبع, سواء كانت مخلفات عضوية مثل مخلفات الطعام, ومخلفات أخري مثل البلاستيك والورق والكرتون والمعادن والزجاج. وقد قامت دولة مثل اليابان بخطوات هامة علي طريق تقليص حجم القمامة, ويعد تدوير علب السلع المحفوظة والزجاجات البلاستيكية من الصناعات البارزة فيها. كما تشجع الولايات المتحدة سكانها في عدد من الولايات علي فرز نفاياتهم وفصل ما يصلح منها لإعادة التدوير بالتعاون مع بعض جمعيات حماية البيئة. وتستثمر دول الاتحاد الأوروبي حوالي ما يقرب من100 مليار يورو سنويا في صناعة تدوير المخلفات.
هذه البديهيات ليست صعبة أو معقدة وكل ما تحتاجه هو نظام وإدارة وتركيز, لأن مصر وقمامتها ليستا حالة خاصة, وقد أشارت دراسة لمعهد بحوث الأراضي والمياه والبيئة إلي أن قمامة القاهرة تعد من أغني أنواع القمامة في العالم, وأن الطن الواحد من الممكن أن يتراوح ثمنه ما بين ستة إلي ثمانية آلاف جنيه, ويمكن للطن الواحد أن يوفر فرص عمل لثمانية أفراد علي الأقل. كما تشير إلي أن هناك فاقدا يقارب12 أو13 مليار جنيه سنويا من مصادر الثروة الطبيعية في القمامة, وهي مخلفات يمكن إعادة تدويرها واستخدامها إضافة لنفايات صناعية قابلة للتدوير, مثل الزجاج والورق والصاج ولعب الأطفال والملابس الداخلية والأحذية الرياضية والموكيت والمواسير والأجهزة الكهربائية والعبوات.
ومعني ذلك أنه يمكن للقمامة أن تمثل مصدرا مهما للدخل القومي بدلا من أن تكون ثروة مهدرة. وقد عبرت السينما المصرية في عام1980 عن ذلك من خلال فيلم انتبهوا أيها السادة, حيث تم تسليط الضوء علي دور الزبالة في تغيير الأوضاع الاجتماعية للمصريين في عقد السبعينيات من القرن الماضي, حيث استطاع الزبال بأمواله وعماراته وسياراته تحقيق ما لا يستطيع تحقيقه أستاذ جامعي.
أيامها احتفي النقاد والمعلقون بالفيلم لأنه أدان عصر الانفتاح الاقتصادي الذي قلب الأوضاع في المجتمع, ولكنه في نفس الوقت ربما وضع يده علي قلب المعضلة المصرية كلها والتي جعلتنا حتي الآن نختلف عن الدول إلي تقدمت في العالم. فبينما قامت هذه الأخيرة علي تكامل الأدوار والوظائف بين الزبال والأستاذ الجامعي, فإننا وضعنا قيمة من الاحترام الخاص الذي يستحقه الأستاذ, بينما سلبنا الآخر من ذات القيمة لأنه لا يقوم بمهنة محترمة. وبعد ثلاثة عقود من الفيلم أصبح لدينا كثرة من أساتذة الجامعة المحترمين, ولكن جماعة الزبالين إما أنها انتهت, أو توقفت عن العمل, أو أضربت, وكانت النتيجة أننا أصبحنا شعبا يعيش في بحر من القمامة.
وحدث ذلك في الوقت نفسه الذي كانت فيه البيروقراطية تطيل التفكير في البديل الوطني, أو الأجنبي الذي هو الآخر وطني مع إدارة أجنبية علي الأغلب من أصول مصرية, وسواء كانت المعالجة من هذا أو ذاك فإن ما نراه أمام عيوننا كان فشلا صافيا. واتسم الأداء الحكومي في التعامل مع المشكلة بالقصور, أما قوي المعارضة فلم تتعامل مع المشكلة بشكل جاد, بل غلب عليها طابع السخرية دون محاولة طرح أفكار خلاقة وحلول بديلة للتعامل مع المشكلة.
ولكن الصورة ليست كلها سوداء, ولم تكن كل الأيام كالحة, حيث طرح في الشهور الماضية عدد من الأفكار بجهود أهلية وشعبية, وتركزت بدرجة أكبر في القطاعات الشبابية والنسائية, لترسيخ أهمية النظافة في الوجدان المصري العام, جاء بعضها من جمعيات للمجتمع المدني, ومن الصحافة القومية والخاصة, وأطلق شباب حملات علي الفيس بوك لحث المصريين علي نظافة بلادهم, عبر طرح شعارات مثل تعالوا ننظف بلدنا بأيدينا وتعالوا نغير طباعنا للأحسن وتعالوا نجمل شوارع مصر وتعالوا نزين ميادينها.
وأطلق بعض المواطنين (دانا موسي) حملة تنظيف أحد المحافظات التي صارت مليئة بالقمامة, مثل حملة نظفوا الجيزةCleanUpGiza, والتي تهدف لحث الشباب علي خدمة المجتمع ونظافة البلد. كل ذلك يعكس وجود طاقة جبارة جاهزة لمن يريد استخدامها في البناء والتقدم, بدلا من هؤلاء الذين يريدون استخدامها في التطرف والغلو والهدم.